مجتمع

بين متطلبات العيش وإكراهات التنظيم: الباعة الجائلون في قلب التحول الحضري

بقلم: سيداتي بيدا/التحدي الإفريقي

لم يعد حضور الباعة الجائلين في الفضاء الحضري مجرد ظاهرة عابرة أو مشهد يومي مألوف، بل أضحى تعبيراً دالاً عن تحولات سوسيواقتصادية عميقة تعيشها المدينة الحديثة. حضورهم المكثف يكشف، في أحد أبعاده، عن هشاشة سوق الشغل، وعن صعوبات حقيقية في مسارات الإدماج الاجتماعي والاقتصادي، كما يعكس محدودية قدرة النسيج الحضري على استيعاب جميع فئاته ضمن إطار منظم وعادل.

 

فالبيع في الأرصفة والساحات العمومية لا يأتي، في الغالب، بدافع تحدي القانون أو كسر قواعد العيش المشترك، بل نتيجة مسار طويل من الإكراهات الاجتماعية، حيث يتحول الفضاء العام إلى ملاذ أخير للبحث عن مورد رزق يحفظ الحد الأدنى من الكرامة. وتحت تقلبات الطقس وقسوة الظروف، يواصل البائع الجائل نشاطه اليومي، محاولاً التوفيق بين متطلبات العيش واحترام نظام المدينة.

 

غير أن تدبير هذه الظاهرة في كثير من الأحيان يُختزل في مقاربة تنظيمية صارمة، تسعى إلى إعادة ترتيب الفضاء العام وضمان انسيابيته. ورغم مشروعية هذا الهدف، فإن تنزيله العملي يطرح تساؤلات حول التوازن المطلوب بين الحفاظ على النظام الحضري، ومراعاة الأبعاد الاجتماعية والإنسانية المرتبطة بالباعة الجائلين. إذ قد تتحول بعض التدخلات، من حيث لا تقصد، إلى مصدر إضافي للهشاشة، وتُفاقم الشعور بعدم الاستقرار لدى فئة تعتمد على هذا النشاط كمورد وحيد للعيش.

 

وقد أفرزت حملات تحرير الملك العمومي، في سياقات متعددة، واقعاً معقداً جعل من البائع الجائل فاعلاً اقتصادياً غير مستقر، يتنقل باستمرار بحثاً عن موقع آمن لممارسة نشاطه، في ظل غياب بدائل واضحة ومستدامة. وهنا تبرز مفارقة دقيقة: فبينما تسعى المدينة إلى التنظيم وتحسين جاذبيتها، قد ينشأ توتر اجتماعي صامت إذا لم تُواكب هذه الجهود بسياسات إدماجية مرنة تراعي أوضاع الفئات الهشة.

 

ولا يمكن مقاربة هذا الملف دون الالتفات إلى البعد الإنساني الذي يختبئ خلف البسطات،* الفراشة* والعربات البسيطة. فلكل بائع قصة مع أسرة تنتظر، والتزامات معيشية تثقل كاهله، وطموحات مؤجلة في مستقبل أكثر استقراراً.

 

كما أن عدداً من هؤلاء راكموا تكوينات أكاديمية أو مهنية، غير أن محدودية فرص الشغل دفعتهم إلى الاقتصاد غير المهيكل، حيث يصبح الرصيف فضاءً بديلاً عن سوق العمل الرسمي.

 

ويزداد هذا الواقع تعقيداً حين يُضطر البائع إلى تسويق سلعته بهوامش ربح ضيقة، لا تعكس حجم الجهد المبذول، ولا تضمن سوى استمرارية مؤقتة.

 

إنها معادلة دقيقة، يُوازن فيها بين الاستقرار النفسي والاجتماعي ومتطلبات العيش اليومي، في ظل ضغوط متقاطعة تفرضها الحاجة وقواعد التنظيم الحضري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى