من إعداد: عبد الله أيت شعيب (سياسي، مهندس، مؤلف).
الرباط، في 05 شتنبر 2025.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الذي جعل حبّ الأوطان من الإيمان، وجعل في الكلمة الصادقة أمانة، وفي النصح الصالح مسؤولية،
والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الافتتاحية:
استهللت عنوان هذا المقال بالقسم ‘والله إن للمغرب أركان القوة والهيبة والنهضة…’، ليكون إعلانًا صريحًا وعهدًا موثقًا بأن مغربنا العزيز يملك فعلاً، وبدون أدنى شك، مقومات القوة والنهضة.
فالقسم هنا ليس زخرفًا بلاغيًا، بل التزامًا بصدق الكلمة وعمق المسؤولية. وهو تنبيه للقارئ أن ما سيُعرض ليس مجرد رأي يُلقى، بل شهادة في حق الوطن، ونداء لإرادة جماعية تجعل من تلك المقومات واقعًا حيًّا ومشروعًا وطنيًا يليق بمغرب العزّة والكرامة الذي ينشده كل مواطن.
في عالم يهيمن عليه منطق الغاب، حيث لا مكان إلا للقوة، تغدو الحقائق والحجج مهما بلغت وضوحاً مجرد صدى لا يُسمع، وبرهاناً لا وزن له.
إن منطق التاريخ والواقع معاً يعلّمانا أن الحق بلا قوة يبقى معطلاً، وأن الحجة بلا سند من القوة لا تردع خصماً ولا تحمي وطناً.
ومن ثم، صار لزاماً على بلدنا أن يسلك سبيل القوة بمختلف أبعادها: قوة العلم والمعرفة، قوة الاقتصاد والتنمية، قوة الوحدة الوطنية، وقوة الجيش القادر على الردع والدفاع، حتى يصير مهاَباً تُحسب له الألف حساب، ويُحترم حقه قبل أن يُناقَش، ويُصان وجوده قبل أن يُساوَم.
من هذا المنطلق، يصبح السعي نحو القوة ضرورة استراتيجية، لكنها يجب ان تكون قوة شاملة ومتكاملة، تشمل كل أبعاد الدولة والمجتمع:
* قوة الوحدة الوطنية: الدرع الأول لأي مواجهة، حيث يصبح الشعب موحدًا حول قضاياه الكبرى، مدركًا أن استقرار الداخل شرط أساسي لأي قوة خارجية.
* قوة الاقتصاد والتنمية المستدامة: تمنح الدولة استقلالية القرار وتقلل هشاشتها أمام الضغوط الخارجية، وتمكن المواطن من المشاركة الفاعلة في نهضة وطنه.
* قوة المعرفة والبحث العلمي: السلاح الأكثر فعالية في عالم اليوم، ومصدر التقدم الذي يحول الموارد إلى قوة حقيقية وقادرة على المنافسة.
* قوة الدبلوماسية الذكية: قادرة على تحويل أوراق القوة المادية إلى نفوذ سياسي واستراتيجي، وتحقيق مصالح الوطن دون اللجوء دوماً إلى الصدام المباشر.
* القوة العسكرية الرادعة: الضمان الأخير لصون السيادة وحماية الوطن من أي تهديدات محتملة.
وليس المغرب ناقصًا في هذه المقومات. فهو يملك موقعًا استراتيجيًا فريدًا، وموارد طبيعية وبشرية غنية، وتاريخًا وحضارة تضيفان إلى وزنه الثقافي، واستقرارًا مؤسساتيًا يضمن استمرارية مساره. غير أن الركيزة الأساسية لتحقيق القوة الحقيقية تظل العنصر البشري الواعي والمشارك والمؤمن برسالة وطنه.
ولا يمكن لأي قوة أن تتحقق بلا إرادة سياسية جامعة، يشارك فيها الجميع – الدولة والمجتمع – على قاعدة المصير المشترك، مع توفير ظروف تجعل المواطن يشعر بكرامته في جميع أبعادها: المادية، والمعنوية، والحقوقية.
فالمواطن المكرم هو أساس الوحدة، والمحرك الأول لأي نهضة، ومصدر القوة الحقيقية التي تجعل الوطن مهاَبًا ومصانًا الحق والوجود.
*لنعتبر من تناقضات واقعنا
لقد استطاع المغرب أن يحقق منجزات كبرى في كرة القدم، فأصبح في المراتب الأولى عالميًا. الكل يعلم أن وراء ذلك إرادة سياسية واضحة، واستثمارًا مركزًا، ونية صادقة، حتى أضحت المنتخبات الوطنية في كل الأصناف مصدر فخر وإعجاب للعالم بأسره.
لكن، في المقابل، نجد أن المغرب يحتل مراتب متأخرة عالميًا في قطاع الصحة، حيث يعاني المواطن يوميًا من ضعف الخدمات وغياب العدالة المجالية.
والسؤال الذي يفرض نفسه بمرارة:
لماذا استطعنا توفير كل الشروط لنجاح كرة القدم، بينما خفقنا في معالجة إشكاليات الصحة والتعليم والقطاعات الحيوية الأخرى، وهي التي تمس بشكل مباشر كرامة المواطن وجودة حياته، مع العلم أن نفس الإرادة الملكية السامية ونفس التوجيهات الملكية الواضحة صدرت لكل القطاعات بلا استثناء؟
ولنذهب أبعد من ذلك:
لماذا لا نخلق في مدارسنا نفس الأجواء التي نراها بين مدربي المنتخبات الوطنية ولاعبيهم، حيث تسود المحبة والاحترام والتقدير، ويُذكَّر اللاعب دومًا بأنه يحمل همّ القميص الوطني والعلم المغربي وآمال كل المغاربة؟
لماذا لا يعيش التلميذ والأستاذ نفس العلاقة، فيُغرس في الناشئة الشعور بأنهم يحملون رسالة، وأن مستقبل الوطن بين أيديهم، تمامًا كما يشعر اللاعب بأن عيون الأمة كلها معلقة بأدائه؟
لو تحقق هذا الوعي داخل المدرسة، لكان التعليم مصنعًا للمواطنة الحقة، ومشتلاً للكرامة الوطنية، ومنبعًا للقوة الشاملة التي لا تقل شأنًا عن أي إنجاز رياضي أو دبلوماسي أو عسكري.
قيادة فاعلة لكل قطاع: شرط القوة الحقيقية:
إن النجاح الذي شهده المغرب في كرة القدم لم يأتِ صدفةً، بل كان نتيجة إرادة ملكية سامية، متابعة دقيقة، حشد متكامل للموارد، وتحفيز الكفاءات.
لقد تم وضع استراتيجية واضحة، وتحديد أهداف ملموسة، ومسؤوليات دقيقة لكل طرف، حتى أضحى اللاعب يشعر بثقل القميص الوطني وأن أعين الأمة كلها معلقة بأدائه.
ولكي نُعيد هذا النجاح إلى قطاعات حيوية أخرى—الصحة، التعليم، التشغيل، البحث العلمي—يجب أن يكون هناك على راس كل قطاع قيادة كفؤة، صارمة، ومتابعة حقيقية، تتماشى مع التوجيهات الملكية السامية، وتحوّل الإرادة العليا إلى نتائج ملموسة.
الإشكالية ليست إذن في التوجيه أو الإرادة الملكيين، بل في التنفيذ والانضباط المؤسسي، وغياب تعبئة الجميع حول هدف مشترك، ومساءلة كل مسؤول عن مسؤوليته.
لذلك، لا يكفي إصدار توجيهات؛ بل يجب:
* وضع خطط واضحة ومقاييس أداء دقيقة لكل قطاع.
* تحفيز الكفاءات والمكافأة على الإنجاز، كما يحدث في الرياضة.
* محاسبة كل متقاعس أو غير ملتزم، لضمان الالتزام بالإطار العام للتوجيهات الملكية.
* تعبئة المجتمع كله حول المسؤولية الوطنية المشتركة، ليشعر كل مواطن بأنه جزء من مشروع قوة الوطن، سواء كان تلميذًا، أستاذًا، طبيبًا، موظفًا، أو أي عامل في القطاع العمومي أو الخاص.
حينها فقط، يتحول المغرب من دولة تمتلك الإرادة على الورق إلى قوة حقيقية، مهابّة، ومتقدمة، قادرة على صون كرامة مواطنيها وتحقيق التنمية الشاملة.
أينما وجدت الإرادة والشعور بالمسؤولية الجماعية، تحقق النجاح.
🔹 *الثوابت الدستورية والقيادة الملكية الرشيدة، أسس بناء المغرب القوي
غير أنه لا بد من التأكيد أن هذا المشروع الطموح لبناء مغرب قوي ومهاب، لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار الثوابت الجامعة للأمة المغربية، وفي مقدمتها: الدين الإسلامي الوسطي المعتدل، والوحدة الوطنية والترابية، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي. وهي ثوابت دستورية تشكل مرجعية عليا وضمانة للاستمرارية، وتحتضن في الوقت ذاته غنى وتنوع الهوية الوطنية كما نصّت عليه ديباجة الدستور: هوية موحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الإسلامية والأمازيغية والحسانية، ورافدها الإفريقي والأندلسي والعبري والمتوسطي. بهذا الانصهار المتناغم، تتحول الوحدة إلى قوة، ويغدو التنوع مصدر غنى وإشعاع حضاري، يعزز تماسك الوطن ويصون مساره نحو المستقبل.
كما أن إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتوطيد مكانتها، وتجديد الثقة بينها وبين المواطن، هو الشرط الحاسم لبناء أي قوة حقيقية. فالمؤسسات القوية والعادلة هي الضامن لسيادة القانون، والحامي للحقوق، والوسيط الذي يحوّل الإرادة العليا إلى سياسات ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
وفوق ذلك، فإن المغرب، بحمد الله، يرتكز على بوصلة واضحة ومرجعية عليا تتمثل في المؤسسة الملكية، التي تشكّل الضامن لوحدة الأمة واستمرارية الدولة، والركيزة الدستورية العليا للنظام السياسي المغربي. فجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده، بما ينهض به من أدوار دستورية وقيادية، يوجّه البلاد برؤية استشرافية وحنكة سياسية، ويُشرف على أوراش استراتيجية كبرى مكّنت المملكة من تعزيز موقعها الإقليمي والدولي. ومن ثَمّ، فإنّ تحقيق القوة التي ننشدها جميعًا لا يمكن أن يتم إلا في إطار الالتفاف حول هذا المشروع الملكي الجامع، وفي ظل تعبئة وطنية شاملة تتكامل فيها أدوار الدولة والمجتمع، وتتعانق فيها الإرادة السياسية مع طموح الأمة، ضمن احترام تام لثوابت البلاد واختياراتها الدستورية.
الخاتمة:
إن المغرب القوي لا يُقاس بجيشه أو باقتصاده وحدهما، بل يقاس بوطنية مواطنيه، وإحساسهم بالمسؤولية، وإرادتهم في الدفاع عن قيمهم وحقوقهم. حين تتحقق هذه المعادلة – بين الموارد المادية والقدرات البشرية، وبين الإرادة السياسية والشعور الجماعي بالكرامة – يتحول الحق من مجرد شعار إلى قوة واقعية، والسيادة إلى واقع ملموس، والوطن إلى مرجعية يُحسب لها الجميع ألف حساب.
إن الطريق نحو المغرب المهاب يبدأ من الداخل:
بناء الإنسان الواعي، ووضع السياسات الرشيدة، وتمكين المواطن، وغرس الانتماء والكرامة في النفوس.
وعندها فقط، يصبح الوطن قوة لا تُقهر، صمام أمان لحقوقه ومكتسباته، ونموذجًا يُحتذى به في القدرة على الجمع بين الحق والقوة، بين العقلانية والكرامة، بين الطموح الواقعي والرؤية الاستراتيجية.
ولعل أبلغ عبرة نملكها اليوم أننا حين اجتمعنا على كرة القدم، وخلقنا بيئة من الثقة، والاحترام، والانضباط، والاعتزاز بالقميص الوطني، بلغنا العالمية وأصبحنا حديث الأمم. فلماذا لا نُعمّم هذه الروح على مدارسنا ومستشفياتنا؟
لماذا لا يعيش التلميذ مع أستاذه ما يعيشه اللاعب مع مدربه: محبة، تقدير، إحساس برسالة كبرى؟
حينها فقط يصبح التعليم مصنعًا للنهضة، والصحة عنوانًا للكرامة، ويغدو كل مغربي لاعبًا في ميدان الوطن، يدافع عن رايته ويصون مستقبله.
وهنا يتوجه النداء مباشرة إلى صانعي القرار والنخب المغربية:
أنتم أمام مسؤولية تاريخية، إما أن تستثمروا هذه اللحظة لتشييد قوة مغرب المستقبل، وإما أن نترك للأجيال القادمة تركة من الأعذار والتبريرات.
إن التاريخ لا يرحم المتقاعسين، والأمم لا تنهض إلا بالعزم والجرأة والإخلاص.
أقولها مرة أخرى…: والله إن المغرب، بما يزخر به من مؤهلات استراتيجية وإرث حضاري عميق، وبأبنائه الأوفياء المخلصين، جدير بأن يقف شامخًا في مصاف الدول القوية والمهاب.
ولن تتحقق هذه المكانة إلا إذا اجتمعت إرادة الدولة، وعزيمة المجتمع، وصدق النخب في كلمة واحدة، تتناغم مع ثوابت الوطن الدستورية وتحمي حقوق المواطن وتعزز كرامته.
فلنتسلح بهذه الإرادة، ولنحوّل التوجيهات الملكية إلى واقع ملموس، والسياسات إلى إنجازات حقيقية، ولنجعل المواطن يعيش في كرامة، ويعتز بانتمائه، ويتحمس لبناء وطنه بكل قوة وعزيمة.
مغرب العزّة… مغرب القوة… مغرب المستقبل!
“جميلٌ أن يموتَ الإنسان من أجلِ وطنه، والأجمل أن يعيش من أجله.. فلنعش جميعا من أجل وطننا.. والرحمة والمغفرة لمن ماتوا شهداء من أجل الوطن”. عبد الله أيت شعيب.
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
قال تعالى : ” إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)”. سورة هود.
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أخوكم، المهندس عبد الله أيت شعيب.
بمناسبة حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، يسعدني أن أتقدم لكم بأحر التهاني داعيا الله سبحانه وتعالى أن يجعله لكم فاتحة خير وتوفيق وأن يديم عليكم الصحة والعافية والبركة ولكل الأهل والاقرباء.
وكل عام وأنتم بألف خير.