تهجير تحت غطاء إنساني: كيف تُدار عملية ترحيل سكان غزة عبر مؤسسة «المجد أوربا»؟

لم يكن إعلان وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، مطلع العام الجاري، عن إنشاء “مديرية خاصة لتسهيل المغادرة الطوعية لسكان غزة” مجرد تصريح عابر في سياق الحرب، بل شكّل انتقالًا واضحًا لفكرة التهجير من هامش الخطاب السياسي المتطرف إلى قلب السياسة الرسمية المعلنة. فبعد أيام فقط، أكدت وزارة الأمن الإسرائيلية أن المديرية الجديدة ستعمل على توفير “حزمة شاملة” للراغبين في المغادرة، تشمل ترتيبات بحرية وجوية وبرية، وبالتنسيق مع دول ثالثة.
وبينما كانت هذه السياسة تتبلور على المستوى الرسمي، بدأت على الأرض أدوار لجهات غير حكومية، يقدّم بعضها نفسه كفاعل إنساني، لكنها تعمل – وفق تقارير إعلامية إسرائيلية – في مسار يتقاطع مع التصور الإسرائيلي لما يُسمّى “الهجرة الطوعية”. في هذا السياق، برز اسم مؤسسة «المجد أوربا»، التي تحولت خلال أشهر قليلة إلى محور جدل حقوقي وسياسي، بعد تنظيمها رحلات جوية نقلت مئات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى دول بعيدة، عبر مسارات غير مألوفة، وبالتنسيق مع جهات إسرائيلية رسمية.
من خطاب سياسي إلى سياسة مؤسسية
إعلان كاتس لم يأتِ في فراغ. فمنذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة، صدرت تصريحات متكررة عن وزراء وأعضاء كنيست دعت صراحة إلى “إفراغ القطاع من سكانه” باعتباره “حلًا أمنيًا”. ومع طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في فبراير الماضي، فكرة “الهجرة الطوعية” وتحويل غزة إلى مشروع اقتصادي، بدا أن المناخ السياسي بات مهيأً لإخراج هذه التصورات من دائرة الطرح النظري إلى حيز التنفيذ.
إنشاء “مديرية الهجرة الطوعية” داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية، وتكليفها بالتنسيق مع منسق أعمال الحكومة في المناطق (COGAT)، منح الفكرة إطارًا بيروقراطيًا منظمًا، وحوّل “المغادرة” من قرار فردي معزول إلى جزء من سياسة تُدار من أعلى المستويات، في وقت تُدمَّر فيه مقومات الحياة داخل القطاع على نطاق واسع.
«المجد أوربا» تحت المجهر
تعرّف مؤسسة «المجد أوربا» نفسها بأنها منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، تعمل على إغاثة المجتمعات المسلمة في مناطق النزاع. غير أن تحقيقات صحافية، أبرزها تحقيق نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، كشفت تناقضات جوهرية في هذا التعريف، مشيرة إلى غياب سجل رسمي للمنظمة في ألمانيا أو القدس، رغم ادعائها أن مقرها في حي الشيخ جراح، إضافة إلى أن موقعها الإلكتروني أُنشئ حديثًا ويضم روابط غير فعّالة وصورًا أرشيفية.
الأخطر، وفق التحقيق ذاته، أن «المجد أوربا» كانت الجهة الوحيدة التي حصلت على موافقة رسمية من مديرية الهجرة الإسرائيلية لتنظيم رحلات خروج من غزة، بعد إحالتها مباشرة إلى منسق أعمال الحكومة في المناطق، ما يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة دورها وحدود استقلالها.
رحلات غامضة ومسارات بعيدة
من ماي إلى نونبر 2025، سيّرت المؤسسة ثلاث رحلات جوية على الأقل. في الأولى، نُقل 57 فلسطينيًا من مطار رامون إلى بودابست، قبل مواصلة السفر إلى إندونيسيا. وفي الثانية، سافر نحو 150 شخصًا من رامون إلى نيروبي ثم إلى جوهانسبرغ، بينما شملت الرحلة الثالثة 153 مسافرًا احتُجزوا لساعات طويلة داخل مطار جوهانسبرغ.
ووفق شهادات مسافرين، طُلب منهم دفع مبالغ تراوحت بين 1500 و2700 دولار للفرد، وعدم حمل أمتعة سوى الهواتف المحمولة وجوازات السفر. كما نُقلوا بحافلات إسرائيلية من داخل القطاع عبر معبر كرم أبو سالم إلى مطار رامون دون ختم جوازاتهم، ما تسبب لاحقًا في مشكلات قانونية عند الوصول.
تجارب الغزيين مع هذه الرحلات لم تكن واحدة. فبين من تراجع عن الفكرة بسبب الكلفة الباهظة، ومن نجح في الخروج ثم واصل طريقه بجهوده الشخصية، ومن ظل ينتظر ردًا غامضًا بعد أشهر من التقديم، تتكرر روايات عن غياب الشفافية، وفحص أمني غير مُعلن، وعدم وضوح مصير البيانات الشخصية للمتقدمين.
يرى خبراء في القانون الدولي أن توصيف ما يجري بـ“المغادرة الطوعية” لا يستقيم قانونيًا في سياق حرب تُدمَّر فيها مقومات الحياة الأساسية. فالقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، يحظر النقل القسري للسكان، سواء تم بالقوة المباشرة أو عبر خلق ظروف معيشية تدفعهم إلى الرحيل، معتبرًا أن “حرية الاختيار” لا تُقاس بمعزل عن البيئة المحيطة بالقرار.
دول الاستقبال والتحقيق
دول الاستقبال بدورها وجدت نفسها أمام واقع معقّد. جنوب أفريقيا أعلنت “دهشتها” من وصول فلسطينيين دون تنسيق مسبق، مؤكدة فتح تحقيق في ملابسات الرحلات، فيما بدأت دول أخرى، مثل إندونيسيا، تشديد إجراءات الدخول خشية تحول الإعفاءات الإنسانية إلى مسار تهجير منظم.
ويتزامن نشاط «المجد أوربا» مع نقاشات إسرائيلية مكثفة حول “اليوم التالي لغزة”، ومع بحث رسمي عن دول مستعدة لاستقبال فلسطينيين خارج القطاع. وفي هذا السياق، يبرز السؤال الجوهري: هل تتحول بعض المبادرات ذات الطابع الإنساني، بقصد أو دون قصد، إلى أدوات تنفيذية تُخفّف الكلفة السياسية لسياسات تهجير أوسع، عبر إعادة تقديمها في قالب “خيار فردي” منفصل عن سياقه القسري العام؟



