أراء وأفكار وتحليل

الحرية المسؤولة 

منير لكماني 18/09/25 ألمانيا

الحرية ليست لافتةً في مظاهرة، ولا شعارًا في خطاب سياسي. إنها ممارسة يومية: في البيت حين نحترم خصوصية غيرنا، وفي الشارع حين نلتزم بالقانون، وفي الكلمة حين نقول الحقيقة بلا تجريح. الحرية أصلٌ في الإنسان، لكن دوامها رهين بقانونٍ يحرسها ويمنعها من الانزلاق إلى فوضى.

الحق في الحياة

ينص الدستور: “الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق” (الفصل 20).

حين وقع حادث سير مأساوي في الطريق السيار بين الرباط والدار البيضاء سنة 2022، بسبب سائق متهور تجاوز السرعة القانونية، طالبت أسر الضحايا بتشديد العقوبات. لم يكن مطلبهم انتقامًا، بل دفاعًا عن أسمى حق: الحياة. القانون هنا لا يقيد السائق، بل يذكّره أن حريته في السياقة تقف عند حياة الآخرين.

الكرامة خط أحمر

ينص الفصل 22: “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت”.

في مراكش، أثار فيديو انتشر سنة 2021 لسائحة تعرضت للسب والاعتداء اللفظي استياءً واسعًا. تدخلت النيابة العامة وفتحت تحقيقًا عاجلًا. لم يكن الأمر دفاعًا عن فرد واحد، بل عن مبدأ: لا حرية لأحد في أن يهين جسدًا أو نفسًا. الحرية بلا كرامة تتحول إلى عنف مقنَّع.

العدالة سند الحرية

يقول الدستور في الفصل 23: “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون”.

في قضية “الأساتذة المتعاقدين” بالرباط سنة 2021، جرى اعتقال بعض المشاركين في وقفات احتجاجية. لكن سرعان ما تم عرضهم أمام النيابة في آجال قصيرة، مع تمكينهم من التواصل مع محاميهم. رغم الجدل، أظهرت القضية أن ضمانات المحاكمة العادلة هي صمام أمان ضد التعسف. العدالة لا تُعطى شعارًا، بل تمارس كحماية ملموسة للحرية.

البيت جدار من حرية

الفصل 24 ينص: “لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. ولا تنتهك حرمة المنزل”.

في إحدى مدن الشمال، رُفعت شكاية ضد شباب استعملوا طائرة مسيّرة لتصوير أحياء سكنية ونشر مقاطع تكشف شرفات وغرف المنازل. أحال وكيل الملك الملف على المحكمة بتهمة انتهاك الحياة الخاصة. المشهد البسيط أظهر أن المسكن بلا حرمة يتحول إلى فضاء مكشوف، وأن حماية الخصوصية جزء لا يتجزأ من الحرية.

الكلمة امتحان

يقول الفصل 25: “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”.

في طنجة، نشر صحفي تحقيقًا عن اختلالات في تدبير نفايات المدينة. ورغم الضغوط، أثبت أمام المحكمة أن معطياته موثقة. فبُرّئ وأُشيد بعمله. الفرق هنا كان واضحًا: التعبير المسؤول يحمي المصلحة العامة، بينما التشهير الكاذب يدمّر سمعة الأبرياء. الكلمة التي تحرر تُبنى على الدليل، لا على الظن.

الشارع صوت الجماعة

الفصل 29 ينص: “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي… مضمونة”.

في أكادير سنة 2019، خرج مئات الطلبة في وقفة سلمية للمطالبة بتحسين الخدمات الجامعية. نظموا صفوفهم، حملوا لافتات، وانصرفوا في الوقت المحدد. لم يُكسر زجاج ولم تُغلق طريق. بهذا السلوك أثبتوا أن الشارع مدرسة للحرية: صاخب بالرسائل، هادئ في الأسلوب.

الملكية والمبادرة

يقول الدستور في الفصل 35: “يضمن القانون حق الملكية… وتضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر”.

قضية “الكسكس الصناعي” التي أثارت الجدل سنة 2020 مثال بارز: شركة حاولت تسجيل وصفة تقليدية كبراءة تجارية. تدخلت جمعيات مدنية ووزارة الثقافة، معتبرة أن الملكية الثقافية ملك للجميع. فُسخ الطلب وأُعيد الحق إلى أصحابه: المجتمع. الحرية الاقتصادية لا تعني الاستيلاء، بل الإبداع في إطار النزاهة.

الحرية والواجب

الفصل 37 يلخص: “يتعين على المواطنين ممارسة الحقوق والحريات… بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بأداء الواجبات”.

خلال جائحة كورونا، اختار آلاف المغاربة ارتداء الكمامة والتزام التباعد رغم المشقة. كان يمكن أن يروا في ذلك تضييقًا على حريتهم، لكنهم أدركوا أن واجب الحماية الجماعية جزء من الحرية ذاتها. الحرية لا تعني أن أفعل ما أشاء، بل أن أفعل ما لا يؤذي غيري.

الحرية في المغرب ليست شعارًا دستوريًا جامدًا، بل مسارًا يوميًا يختبره المواطن في السوق، في المدرسة، في المحكمة، وفي الصحافة. الفصول القانونية تؤكد أن القانون ليس عدوًا لها، بل ظلها الحارس. والوقائع الحية من حوادث السير إلى التظاهرات، ومن حماية الخصوصية إلى النزاهة الاقتصادية تكشف أن الحرية لا تُمارس إلا بوعي ومسؤولية.

الحرية لا تزدهر بالخطب ولا بالشعارات، بل حين تصبح وعيًا يوميًا يُمارَس في المدرسة والبيت والشارع. هي التزام بالصدق في الكلمة، وبالعدل في الموقف، وبالاحترام في الخلاف. وما لم تتحول الثقة في القانون إلى عادةٍ مدنية، والحق في المعلومة إلى سلوكٍ يومي، والتمييز بين التعبير والتشهير إلى بديهةٍ لدى الأجيال الصاعدة، ستظل الحرية منقوصة. إن اكتمالها رهين بأن ندرك جميعًا أن صون حرية الفرد لا ينفصل عن حماية حرية غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى