أثارت وقائع شهدها المستشفى الجهوي الحسن الثاني بأكادير نقاشا مجتمعيا ومهنيا ممتدا ومتجددا حول وفيات النساء الحوامل في المغرب؛ فيما يرى مختصون تحدثت إليهم أن المغرب قد بذل فعليا “جهودا مقدرة” في تقليص معدلات الوفيات والمخاطر المرتبطة منها، إلا أن بلادنا لا تزال في حاجة إلى “مزيد من العمل لتدارك بعض مكامن الخلل المستمرة”.
وحظي الموضوع باهتمام هيئات مدنية حقوقية؛ أبرزها فيدرالية رابطة حقوق النساء التي لم تُخف “غضبها وقلقها العميقين إزاء استمرار وفيات النساء أثناء الولادة في عدد من مناطق المغرب، وآخرها وفاة امرأة حامل (الثلاثاء 7 أكتوبر) بالمستشفى الجهوي الحسن الثاني بأكادير، في “حادث مأساوي يضاف إلى سلسلة من الوقائع المشابهة التي تكشف هشاشة المنظومة الصحية الوطنية، خصوصا في المناطق القروية والجبلية”،
وسجلت أنه “رغم إعلان وزارة الصحة والحماية عن فتح تحقيقات واتخاذ تدابير استعجالية، فإن الفيدرالية تؤكد أن هذه الإجراءات تبقى محدودة وغير كافية؛ لأنها لا تعالج الأسباب البنيوية التي تضع حياة النساء والفتيات في خطر”، معددة أنها تتنوع “من ضعف البنيات التحتية وغياب وسائل النقل الآمنة ونقص الأطر الطبية إلى استمرار التفاوتات المجالية والاجتماعية في الولوج إلى الرعاية”.
معلقا على الموضوع أورد الطيب حمضي، طبيب باحث في النظم والسياسات الصحية، أن “المغرب عرف، خلال الفترة الممتدة 2000-2020، انخفاض وفيات الأمهات بنسبة 70 في المائة؛ لكنها لا تزال مرتفعة بأكثر من 600 في المائة مقارنة بمتوسط الدول المتقدمة”.
وقال حمضي، إن هناك “تحسنا مسجلا إثر مجهودات بُذلت؛ لكن وجب الإقرار باستمرار تأخر في بعض الجوانب”.
وفي هذا الصدد، استدل الطبيب الباحث في النظم والسياسات الصحية بـ”تقلص عدد وفيات الأمهات من 244 لكل 100 ألف مولود حي عام 2000 إلى 72 عام 2020″؛ فيما “يبلغ متوسط الدول المتقدمة نحو 11 حالة وفاة لكل 100 ألف مولود حي. وفي بعض البلدان، يكون هذا المتوسط أفضل بكثير ولا يتجاوز نصف هذا المتوسط”، بحسبه.
وفي تقدير الخبير الصحي عينه، “لا يزال بإمكاننا القيام بعمل أفضل بكثير، ولا يزال هامش إنقاذ حياة الأمهات واسعا؛ لأن هذا المؤشر بالذات من بين المؤشرات الحاسمة في قياس تجويد الصحة العامة وتقدم المجتمع”.
وعزا المصرح سالف الذكر ما حققه المغرب من “تقدم كبير خلال 20 سنة بخفض وفيات الأمهات إلى سياسات صحية سابقة وفرت التحاليل والمتابعة والولادة مجانا بالمستشفيات وكان لها أثر إيجابي واضح”، مستدركا بالقول: “رغم التحسن، فإن الأرقام تبقى مرتفعة مقارنة بالدول المتقدمة التي تسجل قرابة 11 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية”.
وسجل حمضي أن” تقارير حديثة عن صحة المرأة تضع المغرب في مرتبة متأخرة عالميا، مع ضعف بارز في جانب الوقاية”، لافتا إلى أن جملة “العوامل غير الصحية تؤثر بقوة: ضعف الطرق، غياب أو تأخر الإسعاف، ضعف التنسيق ونقل الحوامل، خاصة في المناطق النائية أو صعبة الولوج”.
ونبه الدكتور عينه إلى “فجوة صارخة بين المدينة والبادية؛ وفيات الأمهات في العالم القروي أعلى بحوالي 2.5 مرات من المدن بسبب التهميش وضعف الولوج”، باسطا بعض “الحلول المقترحة: تقريب الخدمات للنساء، متابعة الحمل المبكرة، تحاليل وفحوص مجانية، وتحسين التواصل/التنسيق بين المراكز الصحية والمستشفيات”.
كما يوصي المختصون بـ”ضرورة إيواء الحوامل البعيدات سُكناهن قبل أسابيع من موعد الولادة لتفادي مخاطر النقل والطقس المحتملة”، مثيرين “مطلب عاجل بإجراء تحقيق طبي سريع لكل حالة وفاة أمومة لتحديد الأسباب السريرية (تخدير، تأخر علاج، غياب أطر/تجهيزات) واتخاذ إجراءات تصحيحية فورية”.
داخل المستشفى وخارجه
أيد الدكتور خالد فتحي، الاختصاصي في طب التوليد والنساء وأستاذ بكلية الطب بالرباط، أن “الوفاة للحوامل قد تنجم عن التأخر في تقديم الخدمة الطبية في حينها؛ وهذا يحدث داخل المؤسسة الاستشفائية وأحيانا كثيرة لعوامل خارجة عن المنظومة الصحية”.
وأضاف فتحي شارحا : “كل وفاة بسبب الحمل تسائل منظومتنا الصحية؛ لأنه دائما يمكن أن نحقق نتائج أفضل. ومع ذلك، فالمغرب بالنظر إلى مستوى اقتصاده قد بذل مجهودات كبير في مجال الصحة الإنجابية؛ ولكن علينا أن نبذل المزيد، فالمعدل الحالي هو 70 وفاة من كل مرة ألف ولادة حية. أما الهدف المرسوم حاليا هو 20 وفاة من كل مئة ألف ولادة حية في أفق 2030”.
واعتبرا أنه “من المؤكد أن النقاش حول هذا الموضوع يحتم علينا أن نرفع من سقف طموحنا؛ والسقف هو أن ننقذ كل النساء اللواتي كان بالإمكان تفادي الوفاة في حالتهن. وهنا لب الإشكالية”.
وتابع الاختصاصي في طب التوليد والنساء مفصلا: “هناك أنواع كثيرة من التعطلات؟ للأسف، ما زلنا نعاني منها جميعها. في المنزل حيث هناك عراقيل اجتماعية اقتصادية وثقافية في بعض الأحيان تعوق إعداد المرأة لمتابعة حملها والولادة في أفضل الظروف. وهذه من العوامل غير المباشرة التي تسبب ارتفاع وفيات الأمهات؛ من قبيل: درجة الفقر، غياب التثقيف الصحي ونسبة الأمية داخل المجتمع، وعي المجتمع والمحيط المباشر للمرأة بحقوقها الإنجابية والصحية”.
وعدّد الأستاذ بكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بالرباط “اختلالات تهم الولوج إلى الخدمة الصحية، أساسا البعد الجغرافي عن المنشأة الصحية وغياب وسائل النقل والحالة المتردية للطرق وهذه مأساة المناطق النائية في القرى”.
وزاد المتحدث ذاته منبها إلى “نظام الإحالة على المستشفيات حين يتعلق الأمر بنقل حامل من دار الولادة إلى مستشفى إقليمي فجهوي ثم جامعي، مع تسجيل بيروقراطية إدارية أحيانا عدم إحالة في الوقت المناسب؛ نظرا لتأخر تشخيص الوضع الصحي للحامل مما يسبب ضياع الوقت (…) وهذا ما يفسر -بحسبه– أن نسبة كبيرة من هذه الوفيات كتن من الممكن تلافيها لتدابير تقع خارج نطاق المستشفى أما بعض المناطق ليست هناك تغطية كافية بالموارد البشرية”.
الصحة الإنجابية للقُرب
الدكتور خالد فتحي أبرز أن “الصحة الانجابية يجب أن تتوفر للمرأة بالقرب منها وفي وقت تحتاج فيه لها، وبجودة ومعايير مقبولة وبكلفة يتحملها المجتمع”.
وشدد فتحي على أن “هذا مُعبر عن مؤشر الأمن الصحي القومي، لأن حياة كل امرأة وكل طفل بصحة جيدة تهمنا؛ ما يتطلب استعدادا للأمر مع تنامي العمليات القيصرية وعزوف الأطباء عن التخصص في الولادة وتفضيلهم تخصصات أخرى…؛ وهذه ظاهرة عالمية”.
وزاد المصرح مستشرفا أن “انخفاض الخصوبة والعزوف عن الانجاب بالولادة الطبيعية وميل بعض الأمراض التي تربك الحمل والولادة إلى الظهور في سن مبكرة… كل ذلك سيزيد من التدخل الجراحي في الولادة عن طريق القيصرية (…) داعيا إلى “ضرورة التحرك المستعجل لنضع الخطط اللازمة لمواجهة ارتفاع المخاطر”.
وأوصى الخبير الصحي: “يجب أن نبني دورا لإقامة الحوامل بجانب المستشفيات الإقليمية والجهوية تقيم فيها الحامل البعيدة عن هذه المراكز حيث تكون كل حامل تحت أعين المراقبة الطبية والتتبع الدقيق. وهذا يقتضي التصريح بالحمل من طرف كل النساء لمجرد وقوعه. كما يجب أن تكون العلاجات مجانية. ويتعين أيضا تمكين المرأة الحامل في حالة الوضع الحرج من تلقي العلاج، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص”، خاتما بالقول: “الأهم هو ابتكار حلول من خارج الصندوق، مع تسريع أجرأتها مع فتح المجال للمجتمع المدني لكي يساهم في وضع حلول كذلك”.